ما زلت أوقن أن "الأدب الإسلامي" فكرة حقيقية تجد إطارها الموضوعي في ما يلتزم به جماعة من الأدباء تحت مبادئ فكرية وفنية معلومة.
فاتفاق جمهرة من الأدباء من مشارق الأرض ومغاربها على بعض الأصول الأدبية والمنهجية "لنظرية الأدب الإسلامي" يجعل بالفعل ما ينتجونه من الأدب داخلا تحت مسمى الأدب الإسلامي. والضرورة الفكرية التي تنشأ عن الحرية، هي نفسها التي تجعل إنكار المنكرين واعتراف المعترفين على مستوى واحد.
إن الأدب وإن اختلفت تعريفاته وتنظيراته، ليس شيئا يستعصي على التحديد أو التقعيد. فليذهب الذاهبون إلى أن الأدب هو "كل أثر مكتوب"، وليذهب آخرون إلى أن الأدب هو كل "أثر مكتوب يقصد التأثير والإمتاع"... وهو عند سواهم "البيان" وهو: "التأثير" وهو " ما يؤدب ويعلم ويهذب"...وليذهب هؤلاء وهؤلاء إلى ما شاؤوا من الحقائق في فكرة "الأدب" ونشأته وتطوره وعوامله المؤثرة فيه ومصادره وآثاره وغيرها مما يتصل من قريب أو بعيد بالأدب وقد يمتد إلى غير الأدب من شؤون الفكر والاجتماع والفلسفة.. ليقل هؤلاء ما يشاؤون وليستلهموا أفكار الغربيين وليرددوا ما قاله نقادهم وأدباؤهم... لكن الذي لا يملك المتطاولون أن يصلوا إليه بالحجب والإنكار هو أن هذا الأدب نشاط إنساني، يأتيه الإنسان وهو في كامل قواه العقلية، وأنه يمارسه في أصفى حالاته الشعورية.
ولئن كان هناك من الناس من يستهويهم الأدب وقرض الشعر إلى حد التملك، فهم يكتبون منه سكارى وفي الصحو، وفي فترات من النشوة المضمخة بخيال منطلق لا يملكون له ردا، إلا أنهم –بالتأكيد- يقرؤون وهم صاحون ما كتبوا في حالة "جذبتهم الأدبية"
فالأدب إذن نشاط إنساني.
فما الذي يمنع إذن هذا النشاط أن يكون خاضعا -كجملة ما يخضع له الإنسان- للتوجيهات الربانية والقواعد الإسلامية الخلقية؟
فهل يا ترى استغرقت كلمة الله كل أنشطة الإنسان بالأمر والنهي والندب وأفردت الأدب وحده بالإهمال، وأباحت له -وحده-الانطلاق في مراتع الخيال والضلالة؟ وقالت له يا أيها الأدب: إنما أنت صوت الإنسان الحر وقبسة من قبسات روحه المتوثبة ولمعة رائعة من فكره الخلاق المتدفق، فلا عليك أن تكون آثما، فانعم بالحرية، واهنأ بها، فطر كيف تشاء، واكتب كيف تشاء، وانطلق حيثما تشاء، فأنت القلم الذي ليس عليه قلم رقيب؟ وأنت النشاط الذي ليس عليه حرج؟ أم ترى أن "الأدب" وحده من سائر نشاطات الإنسان اليومية يخرج عن التوجيهات والمحاذير الشرعية.
إن الأدب ينشا فينتشر فيكون له التأثير العظيم، ولكن هؤلاء لا يفقهون.
وما المانع أن يقول الأديب عن نفسه: إنه يقرأ قوله تعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا.(الإسراء 36)
وانه يلتزم بمضمون الآية فلا يغتاب الناس، ولا يقول شيئا لا يعلمه عن يقين، ولا يفضح العورات ولا يتتبع الناس بالتشهير والتحقير، وأن أدبه يسلم من كل هذا...
وما المانع أن يكون الأدب -وهو كلمات في نهاية المطاف-متشبعا بالقول السديد الذي أمرنا جميعا باتباعه..
أم ترى أن الأدب لا يصح ولا يجمل ولا يحسن ولا يكون خفيفا ظريفا، وجيِّدا جدا، وحسنا عبقا، لذيذا، ومختالا رائقا، ويأخذ الألباب، إلا إذا أعرض صفحا عن هذه التوجهات. فتكون كل آداب الدنيا من ماركسية ووجودية ولاهية..وما شئت من النعوت والتسميات مقنعة جدا، أما الأدب الإسلامي فهو النشاز وحده، وهو دونها جميعا : غث جدا، وبارد جدا، ولا يقنع أحداً.
لنفرض جدلا أن بعض النصوص الأدبية الإسلامية ضعيفة أو لم تحقق مستوى من الأدبية، أو لم يكن لها الإقناع الكافي والتأثير الكافي (وهو ما يتقرر في كل الآداب)، فهل هذا كاف لينسحب حكما على الأدب الإسلامي كافة، فيرفض جملة وتفصيلا، ويلغى إلغاء.
لا أقتنع أن لهذا الحكم صلة بالموضوعية لا من قريب ولا من بعيد، ولكنه حكم قائم على التطاول، نابع من الأمراض الوهمية التي قد تسيطر على بعض المثقفين فيحسبون أحيانا أنهم يملكون إنشاء الحقائق وتقريرها في الهواء، أو هم قادرون على التحدي، فزلزلي يا جبال، فأرض المعركة قد خلت لصاحبها الفلاني ....
ليعلم هؤلاء أن مطالب الأدب الإسلامي ليست مطالب مستحيلة، وهي في جوهرها مع أدبية النص، ولكنها تضيف إلى ذلك أن يكون الأدب تعبيرا عن الرؤية الإسلامية.
فكيف إذن يستطيع الآخرون التعبير عن الفكرة الوثنية وعن الصراع بين الإنسان والآلهة، كما هو مثبت في الأسطورة الوثنية اليونانية ومن بعدها الأساطير الغربية المعاصرة التي أوشكت أن تصير (من جراء تصديقها) حقائق للناس يزدهون بها ويفخرون بتردادها، فكيف يستطيع كثير من الناس أن يستلهموا الأفكار الباطلة التي لا تنشئ الإنسان الصحيح، ولا ينبثق عنها تصور سليم يكفل للإنسان الرشد، فينشئوا بها أدبا وفنا؛ أفلا يستطيع المسلمون أن يعبروا بأدبهم مثلا عن الحقيقة الخالدة التي تنطوي عليها حقيقة الإنسان في الأرض؟ أوليس الإنسان مكلفا؟ وهذه الملحمة الحقيقة الموجودة في القرآن وهي تصور الصراع بين الحق والباطل، بين نوازع الإنسان وأشواقه نحو الحق، وبين نوازغ الشيطان التي تجتذبه على الأرض إلخ .. ألا تقدر كل هذا المعاني أن تخلق أدبا، وأن تكون مادة للأديب يصوغها فيعبر عنها بأسمى تعبير؟
أوليس الأدب المنحل هو الذي أنشأ القصة الداعرة وهو الذي زين الفاحشة باسم التقدمية، وهو الذي أطلق هذا السعار الذي ملأ الحياة، وهو الذي أفسد الفطرة..حتى طمست فصارت ترى الحق باطلا والباطل حقا.
إن هناك من ينكرون ظاهرة الأدب الإسلامية بدوافع إيديولوجية بحتة لا صلة لها بالعلم والواقع، بيد أن إنكارهم لا يجب أن يزعجنا. لأن الإنكار لا يملك أن يغير الحقائق، بقدر ما يكشف عن طبائع بعض المرضى، ممن لا يعجبهم العجب !!! فالذي يعتقد بأن الجاهلية على هزالها وحطامها، استطاعت أن تخلق الشعراء الذين يعبرون عنها ويستطيعون أن يصوروها، في الوقت الذي عجز فيه الإسلام أن يخلق شاعرا واحدا يستطيع أن يعبر عن الإسلام، أو يتمثل الإسلام في أدبه، الذي يقول هذا الكلام لا يمكن أن يكون في قدرته العقلية ما يدعو إلى الإعجاب والإكبار. إنه يكشف في سهولة ويسر أن إنكاره لحقيقة الأدب الإسلامي متولد عن حالات نفسية عصابية، لا تلتزم الحق ولا تعترف به بقدر ما تركب التجديف والتحدي الفارغ الخاوي الذي لا معنى له غير الجعجعة، والانتفاخ...
إن إنكار حقيقة الأدب الإسلامي برفع الصوت، لا تجدي شيئا، وهي تدل على التعصب قدر ما تدل على بلادة الذهن، وعلى الانتماء للاشيء. إذ إن من يعترف اعترافا صريحا بوجود أدب ماركسي، يستمد أصواته وتوجهاته المباشرة من توجيهات فكرية ماركسية، ويصرح بأنه أدب سام قوي وجيد جدا، رائع..ويكيل له قاموسا من النعوت المعيارية الموجبة..وبقدر تلك النعوت يميل مَيلا فيلقي النعوت نفسها ويكيلها لنقاد النظرية الماركسية، ويسمي نقادها "نقاد فطاحلَ" وفي الوقت نفسه يسمُ الأدب الإسلامي بالضعف والبرودة. ويرفض أن يكون الأدب معبرا عن الأشواق الروحية، أو عن حقائق العقيدة الإسلامية. إن من يحتوي هذا التناقض الكبير في عقله أبعد ما يكون عن الذوق وأبعد ما يكون عن النقد وعن ممارسة إطلاق الأحكام.
لأن الأدب في الحالين جميعا معبرٌ عن فكرتين، يستمد مادته التي يعبر عنها (مهما اختلفت الأشكال) من عقيدة معينة، فكيف يكون والحال هذه ساميا هنا، ووضيعا هناك؟
بل كيف ينال الأدب الجاهلي من الاعتراف والتكريم عند هؤلاء ما لا يناله الأدب الإسلامي ؟؟؟
لقد سمعنا طويلا منهم أن الأدب الجاهلي أدب رفيعٌ محلق في سموه، معبر عن الفكرة الجاهلية والحياة الجاهلية… أما الأدب الإسلامي (فللأسف) لم يستطع أن يكون أدبا إسلاميا، وحسان بن ثابت عند هؤلاء المجدفين أيضا ليس بشاعر إسلامي لأن شعره عبارة عن ترجمة للقرآن ومعاني القرآن !!!
إنهم يخافون من فكرة "إسلامي" فكأنها غول يقتحم عليهم حياتهم، أو وحش يهدد وجودهم، وانطلاقا من هذا الخوف يعتبرون كل أدب من الآداب -مهما اختلفت- حتى الآداب الجاهلية، مقبولا معقولا مستحسنا لا يتطاولون إليه بالإنكار ويتأدبون معه كثيرا، لكنهم عندما يسمعون كلمة "الأدب الإسلامي"، ينسون أدبهم، فيتطاولون ويتحدون، ويلجون في طغيانهم يعمهون.
لقد كان بعض الجاهليين وعلى رأسهم أبو جهل، ينكرون إعجاز القرآن عن تطاول، فإذا قرعتهم آياته البينات، قالوا في استهانة وعجرفة:" قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ " الأنفال 31.
تلك هي فكرة الإنكار، وذلك هو منشؤها دائما، فهي وقاحة وتعرض دون حجج ولا أدلة.
وعنهم فال القرآن "يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها"
يا أيها الناس: ليس للأمر علاقة لا من قريب ولا من بعيد بالعلم ولا بالموضوعية ولا بالتحدي، ولا بطلب الحق، ولكنه التجديف.